البدايات الأولى
لعبت مدينة القدس دورا تربويا مركزيا في تاريخها. وعلى وجه الخصوص، قامت مدارسها وكلياتها، التي تتواجد حول الحرم الشريف وداخل أسوار البلدة القديمة، بتخريج مجتمع أكاديمي متعلم وحيوي على مدى أجيال عديدة. ورأى بعض العلماء البارزين أهمية زيارة هذه المدينة المقدسة من أجل الحصول على شرف نشر أعمالهم فيها. فقام الغزالي (في العهد 1111)، الذي ترأس جامعة بغداد، بنشر إحدى أهم أوراقه في مدينة القدس. مازالت المخطوطات القديمة التي كان الباحثون يستخدمونها في ذلك الوقت في مجال الطب، والفقه، والرياضيات محفوظة في مسجد المدينة ومكتبات العائلات البارزة.
وقد تم تمويل معظم المعاهد التعليمية من خلال صناديق الائتمان، ومن أهمها "الصلاحية" (نسبة إلى مؤسسها صلاح الدين في القرن الثاني عشر). إلا أن هذه المراكز العلمية، إلى جانب غيرها من المعاهد والأنشطة الحكومية والمجتمعية، انخفضت خلال القرن التاسع عشر. جاءت فكرة إعادة إحياء دور مدينة القدس كمركز تعليمي خلال مؤتمر إسلامي عقد في مدينة القدس في العام 1931. كانت نتيجة هذا المؤتمر هي دعوة لتأسيس جامعة باسم "الأقصى"، المعقل الإسلامي في مدينة القدس.
الجامعة ما بعد عام 1945
على الرغم من ما جاء في المؤتمر، ظلت هذه الجامعة مجرد فكرة، باستثناء "الكلية العربية" التي أطلقت في نهاية فترة الانتداب البريطاني في فلسطين. إلا أن هذا الشعور بالفخر جرّاء تحقيق مثل هذه الخطوة، تلاشى مع عملية تفكيك الأراضي الفلسطينية، واحتلال القدس الغربية، وزيادة الشتات الفلسطيني.
أعيدت فكرة إنشاء جامعة القدس على ما تبقى من مدينة القدس مرة أخرى في الخمسينات. كانت الضفة الغربية في ذلك الوقت مضمومة إلى الأردن، وكانت عمّان هي عاصمتها، حيث تركّزت جهود الأردن ضمنيا في إنشاء جامعة في عمّان بدلا من الضفة الغربية. في حين كان الاحتلال الإسرائيلي للقدس الشرقية في عام 1967 أحدث ويستمر بإحداث إجراءات جذرية في المدينة، مما أدى إلى تهميش جديد لفكرة انشاء جامعة عربية في مدينة القدس مرة أخرى.
وفي أوائل السبعينات، أعيدت المناقشات لإنشاء جامعة فلسطينية قادرة على استيعاب أعداد الطلبة الخريجين من من مدارس الضفة الغربية وغزة، الذين، نظرا للظروف التي أنشأها الاحتلال عام 1967، لم يكن سهلا لهم السعي لاستكمال تعليمهم العالي في العالم العربي. وعلى الرغم من الدعوات لإنشاء جامعة في القدس، إلا أن الفكرة السائدة كانت إنشاء هذه الجامعة خارج نطاق القدس الشرقية لمنع سيطرة إسرائيل عليها. فقامت بعض المؤسسات التعليمية البارزة في الضفة الغربية تدريجا بالتحول إلى جامعات، ومنها بيرزيت والنجاح، تبعتها جامعات أخرى في الخليل وبيت لحم. ومجددا، تم تهميش القدس.
جذور المؤسسة
في أواخر السبعينات، تم إنشاء العديد من الكليات المستقلة في القدس وضواحيها، وذلك استجابة لاحتياجات محددة. جاءت المبادرة الأولى مع إنشاء كلية الدعوة وأصول الدين في بيت حنينا في عام 1978، وتبعتها كليتا المهن الطبية، والعلوم والتكنولوجيا في مدينة البيرة وأبو ديس على التوالي، في عام 1979. وفي عام 1982، تشكلت كلية هند الحسيني للمرأة (كلية الآداب) ومركز الآثار الإسلامية في حي الشيخ جراح في القدس.
ومن هنا بدأ الرؤية لتشكيل جامعة في العاصمة القدس، تبلورت عندما تقرر في عام 1984 توحيد هذه الكليات. جاءت هذه الولادة الرمزية استجابة لمطلب من قبل اتحاد الجامعات العربية كشرط للاعتراف شهاداته، ثم تم تشكيل لجنة تنسيقية من مختلف مجالس أمناء الكليات. ومن هنا، بدأت عملية تطويرية لـ "كونفدرالية" تكون فيها كل الكلية مستقلة قانونيا. وفي عام 1994، تأسست كلية الطب.
التأسيس الرسمي للمؤسسة
تحقق الاندماج الرسمي لكافة الكليات في عام 1995. تم اقرار "القانون الأساسي" للجامعة، وتلاه إقرار للوائح الداخلية المتكاملة ووضعت حيز التنفيذ، مما مهّد الطريق لولادة جامعة القدس كمؤسسة موحدة. وتدريجيا، تم فتح مراكز وكليات جديدة أو دمجها، وتم وضع مجموعة كاملة من البرامج الأكاديمية والخطط التعليمية لتعزيز مفهوم إيجابي للتفاعل مع المجتمع. وأخيرا، ولدت جامعة القدس، ككيان واحد ومستقل.
الكفاح من أجل البقاء والواقع الحالي
تواجدت جامعة القدس كمؤسسة أكاديمية في مدينة القدس لأكثر من 30 عاما. هي مؤسسة أكاديمية رائدة في البلاد وتحتل أعلى المراتب في العالم العربي كله في عدد المنشورات المحكمة لأعضاء الهيئة التدريسية التي تقدّم كل سنة. من بين مختلف كلياتها وأقسامها، توجد أول منشآت فلسطينية ككلية القانونن والطب، ومتاحف الرياضيات والعلوم وشؤون الأسرى، ومراكز البحوث في تكنولوجيا النانو والتكنولوجيا الحيوية وتكنولوجيا المعلومات والعلوم البيئية، ومراكز العمل المجتمعي وعيادات المساعدة القانونية، كما وتوجد محطة تلفزيون ومختبر للإعلام. يعمل ما يقرب من 1،300 موظف في الجامعة حيث يقدمون الخدمات التعليمية والإدارية لما يصل إلى 13،000 طالبا بما فيها مستوى الماجستير.
تتشكل القدس من حرمين جامعيين رئيسيين، حرم كبير في مدينة أبو ديس على ضفاف مدينة القدس، وحرم أصغر في "المدينة" داخل القدس الشرقية - في البلدة القديمة ومحيطها - ويضم حوالي 1000 طالب والعديد من المعاهد ومراكز البحوث. على مدى العقد الماضي، تم فصل حرم أبو ديس عن الحرم في مدينة القدس - حيث توجد الإدارة المركزية للجامعة والكليات والمراكز التي تقع داخل الحدود الموضوعة من إسرائيل بما يخص القدس الشرقية – بسبب جدار الفصل العنصري، مما زاد من الموقف غير المستقر للجامعة في تلك المنطقة، قانونيا وعمليا. وقد اضطرت الجامعة إلى تقليل الأنشطة التعليمية في القدس الشرقية نتيجة المنع المفروض من قبل السلطات الاسرائيلية على حركة تنقل الطلاب والأساتذة.
في السنوات القليلة الماضية، لاحظت الجامعة ازديادا ملحوظا في الضغط المفروض عليها من قبل الحكومة الإسرائيلية، على الجبهة السياسية / القانونية والعسكرية. شهد عام 2013 وحده، إصابة 1769 طالبا وموظفا جرّاء اعتداءات الجيش الإسرائيلي في 26 هجمة متفرقة على حرم الجامعة في أبو ديس – وأبرزها هجوم حدث خلال زيارة قام بها القنصل العام الأمريكي إلى الحرم الجامعي في الـ 3 من تموز عام 2013. وفي الاسابيع الاولى لبداية عام 2014، هاجم الجيش الإسرائيلي حرم أبو ديس في ثلاث عمليات منفصلة – في 14، و 22 و 30 من كانون الثاني. حيث تسبب الهجوم في الـ 22 من كانون الثاني إلى اصابة 438 بين طلاب وموظفين، بما في ذلك أكثر من 40 حالة تتطلب علاجهم في المستشفيات. اقتحم العشرات من الجنود المسلحين الحرم الجامعي، مما تسبب في أضرار مادية للمباني في الجامعة والمركبات جرّاء اطلاق مئات قنابل الغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي والذخيرة الحية. كما وقاموا بمنع أي شخص من مغادرة الحرم الجامعي لأكثر من خمس ساعات. وفي الوقت نفسه، تعرض الموظفون والطلاب كثيرا إلى عمليات الاستدعاء والاعتقال والترهيب في الحرم الجامعي في أبو ديس وفي المباني في البلدة القديمة التي تم مداهمتها أيضا، أو تم اغلاقها في مناسبات عديدة.
من ناحية أخرى، وعلى المستوى القانوني / السياسي، ما زالت الجامعة تسعى جاهدة للبقاء، محاربة التهديدات بالإغلاق من قبل السلطات الإسرائيلية للسنوات السبعة عشر الماضية، من خلال المحاكم الإسرائيلية، ومن خلال المفاوضات مع السلطات الإسرائيلية. على الرغم من أن جامعة القدس معتمدة بالكامل ومرخصة من قبل الهيئات الفلسطينية ذات الصلة، ومعترف بها في جميع أنحاء العالم، إلا أن السلطات الإسرائيلية في القدس الشرقية - جزء من الأراضي المحتلة عام 1967، وبالتالي لا يعترف بها كجزء من إسرائيل بموجب القانون الدولي – مصرة على أن تتقدم الجامعة باعتماد من السلطات الإسرائيلية كمؤسسة الإسرائيلية أو يتم إغلاقها واعتقال أعضاء ادارتها. ومع ذلك، لم تسمح السلطات الاسرائيلية للجامعة تجاوز "الحدود" المحددة من إسرائيل بين القدس الشرقية وباقي الضفة الغربية كمؤسسة واحدة، بل أجبرتها على أن نقسم إلى قسمين للاستمرار. ولم يكن لمحاولات الجامعة المتكررة للامتثال إلى مطالب السلطات الإسرائيلية أي عائد ايجابي.
أجبرت جامعة القدس في النهاية إلى تقديم طلب للحصول على الاعتماد لحرم "المدينة" الجامعي كمؤسسة منفصلة تحت اختصاص السلطات الإسرائيلية. فعلت هذا من خلال اتفاق غير رسمي مع وزارة ومجلس التعليم العالي الإسرائيلي حيث أنه بمجرد تقديم الطلب، ستعمل إسرائيل على الاعتراف تلقائيا بكل الشهادات التي حصل عليها خريجو الجامعة. على الرغم من الجهود التي تبذلها الجامعة - وعلى الرغم من التعاقد مع محام إسرائيلي بارز في هذا المجال، وبتكلفة عالية - تأخر تطبيق الطلب لسنوات عديدة من قبل السلطات الإسرائيلية، وبمدّة أطول مما يسمح به حتى القانون الإسرائيلي. وفي الوقت نفسه، نكثت السلطات الإسرائيلية التزامها الاعتراف بأثر رجعي بشهادات الجامعة، وتم إبلاغ محامي الجامعة الاسرائيلي من قبل معارفه في الوزارات ذات الصلة بأن ملف الجامعة يتم مراجعته شخصيا من قبل مكتب رئيس الوزراء. وحتى لو اعترفت السلطات الإسرائيلية في النهاية بحرم الجامعة في المدينة ككيان منفصل في القدس الشرقية تحت النظام الإسرائيلي، فهذا سيترك الجامعة غارقة في العواقب المالية والإدارية وما إلى ذلك، جرّاء إرغامها على الانقسام.
إن رفض إسرائيل الاعتراف بشهادات جامعة القدس قضية مهمة جدا وحسّاسة. هذا يعني أن خريجي الجامعة لا يمكنهم العمل أو العيش الكريم في القدس، وخاصة في القطاعات الحيوية مثل الطب، والمهن الصحية، والتعليم وغيرها، والتي يتم تنظيمها من قبل السلطات الإسرائيلية، والتي يوجد فيها نقص كبير. فعلى سبيل المثال، تشير الإحصائيات إلى أن هناك حاليا 10،000 طفل في سن المدرسة في القدس الشرقية لا يستطيعون الحصول على تعليم مدرسي. تخرّج كلية هند الحسيني للبنات التابعة للجامعة، في حي الشيخ جراح، حوالي 50 معلمة بشهادة باكالوريوس في التعليم كل عام - حيث لا يسمح لهم بالتدريس في مدارس القدس بسبب شهاداتهم غير المعترف بها من قبل إسرائيل. وبالمثل، تمتلك جامعة القدس كلية طب بارزة، والتي يمنع خريجوها من مزاولة مهنتهم في مدينة القدس، وخاصة في المستشفى الفلسطيني الرئيسي، المقاصد، الذي يقع فيها. ناهيك عن الدور المحوري الذي تلعبه الجامعة، باعتبارها المؤسسة الفلسطينية الاكبر المتبقية في القدس، في العديد من الأنشطة الأساسية الأخرى في المدينة، كالثقافية (من خلال مركز دراسات القدس، على سبيل المثال)، والرعاية الاجتماعية (من خلال مركز العمل المجتمعي، الذي يوفر التعليم للكبار والمساعدة القانونية، أو معهد الطفل الذي يعمل مع الاطفال ذوي الصعوبات في التعلم ويقدم خدمات العلاج، الخ)، وهلم جرا، وكلها مهددة بسبب الاجراءات الاسرائيلية ضدها.
وصلت جامعة القدس إلى نهاية قدرتها على القتال القانوني. لدى الفلسطينيين الذين يعيشون في القدس الحق في التعليم، والعمل والعيش الكريم هناك؛ ولدى جامعة القدس الحق في الوجود كجامعة في القدس الشرقية. ففي أيلول من عام 1993، وبينما كانت إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية توقعان على اتفاقات أوسلو، أدلى وزير الخارجية الإسرائيلي (الرئيس الآن) شمعون بيريس في بيان رسمي للكنيست، أكد في رسالته إلى الوزير النرويجي هولست في 11 تشرين الاول، 1993 (كما نقل): "لذلك، فإن جميع المؤسسات الفلسطينية في القدس الشرقية، بما في ذلك الأماكن الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والثقافية، والمسيحية والإسلامية المقدسة، يؤدون مهمة أساسية للسكان الفلسطينيين. وغني عن القول، أننا لن نعوق نشاطها، على العكس، فإن تحقيق هذه المهمة الاساسية يجب تشجيعه". لا يجب أن تكون محنة الجامعة قضية سياسية - فهي أساس مهم بالنسبة لسكان مدينتنا – إلا أنها لن تحل إلا عن طريق الضغط على إسرائيل لاحترام كل من القانون الدولي، وخاصة الحق في التعليم، والتزاماتها المعلنة رسميا. على إسرائيل التوقف فورا عن مهاجمة مقرات الجامعة والموظفين والطلاب؛ وعليها أن تسمح للجامعة بالعمل بحرية دون عائق في مدينة أبو ديس والقدس الشرقية، والاعتراف بخريجيها وشهاداتهم.
المستقبل
في حين تشجع الجامعة الأنشطة العلمية والبحثية البحتة للتوصل إلى مفهوم "المعرفة ذاتها"، فإنها أيضا توازن هذا الدعم في السعي وراء المعرفة بدور تفاعلي قوي مع المجتمع. وهكذا، سواء من خلال البرامج التي تقدم درجة عملية (مثل الطب والتمريض والقانون وطب الأسنان والعمل الاجتماعي والحاسوب وتكنولوجيا المعلومات والمعرفة، وتكنولوجيا التصنيع الغذائي إلخ)؛ أو من خلال ساعات التدريب العملية التي يجب على الطلاب انجازها في القطاع الصناعي؛ من خلال الأنشطة البحثية (مثل الصحة العامة والعلوم الاجتماعية والبيئة وصناعة الكيماويات الزراعية، الخ)، أو من خلال برامج التوعية والمعاهد (مثل مركز خدمة المجتمع، برنامج التعليم المستمر، المحطة التلفزيونية، الخ .)، تعمل الجامعة على الحفاظ على توازنها وثباتها على الأرض، من حيث "استماعها" إلى احتياجات المجتمع ومن حيث "تأثيرها عليه".